
أثار القصف الإيراني على إسرائيل ونتائجه في الفترة من أبريل وحتى أكتوبر 2024، العديد من التساؤلات حول جدوى الترسانة الإيرانية الضخمة من الصواريخ – التي ازدادت أهميتها منذ انهيار ما يعرف بـ”محور المقاومة”، في ظل تكهنات بمضاعفة إيران تركيزها على تعزيز هذه القدرة لضمان استمرارية استراتيجيتها العسكرية.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، نشر تقريرا حول حدود قوة وفاعلية الترسانة الصاروخية الإيرانية، انطلاقا مما أثارته نتائج الضربات الإيرانية على إسرائيل، لاسيما أنه في ضربة أبريل، أطلقت إيران ما يُقدر بـ 110-130 صاروخاً باليستياً على إسرائيل.
وتعطل حوالي نصفها بعد الإطلاق، وتم اعتراض ما يقرب من النصف الآخر، بينما اخترق حوالي 7-9 صواريخ، مسببة أضراراً طفيفة دون وقوع قتلى (تم أيضاً إطلاق 185 طائرة مسيّرة و6 صواريخ كروز؛ لكن جميعها أُسقطت أثناء مسارها).
وفي أكتوبر، أطلقت إيران ما يُقدر بـ 200 صاروخ باليستي: حوالي 20 منها فشلت بعد الإطلاق؛ وأكثر من 30 صاروخاً أصاب إسرائيل، مما أدى إلى وقوع بعض الأضرار في “قاعدة نيفاتيم الجوية” وعدة مناطق سكنية؛ وتم تدمير عدد غير معروف من الصواريخ أثناء مسارها. وقُتل فلسطيني في الضفة الغربية بسبب حطام الصواريخ، وتوفي إسرائيلي بنوبة قلبية نتيجة للهجوم. باختصار، كانت نتائج الهجومين ضئيلة نسبياً مقارنة بالموارد التي تم إنفاقها.
ومنذ الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينيات، كانت الصواريخ الباليستية جزءاً أساسياً من الاستراتيجية العسكرية لطهران، والتي تقوم على ثلاثية الردع والقتال، ,والتي تتألف من:
1. جيوش بالوكالة قادرة على خوض المعارك وتنفيذ أعمال إرهابية بعيداً عن حدود إيران.
2. أنظمة ضربات بعيدة المدى – معظمها صواريخ وطائرات مسيّرة – قادرة على ضرب أهداف في جميع أنحاء المنطقة.
3. قوات بحرية ساحلية مرنة قادرة على تهديد الملاحة عبر مضيق هرمز. (بالإضافة إلى ذلك، توفر استراتيجية التحوّط النووي درجة من الردع الكامن ضد التهديدات للنظام).
ومع ذلك، بحسب التقرير؛ تعرّض الركن الخاص بالجيوش بالوكالة في هذه الثلاثية لضربات شديدة في الأشهر الأخيرة.
فقد تم تدمير “حماس” في غزة إلى حد كبير، وتم إضعاف “حزب الله” بشكل كبير في لبنان، مع فرص ضئيلة لإعادة تزويدهما بالإمدادات على المدى القريب. وستواصل إيران محاولة تسليح العناصر الفلسطينية المتطرفة في الضفة الغربية، لكن سقوط نظام الأسد في سوريا سيعيق هذا الخط الإمدادي أيضاً. وبالمثل، ستسعى إيران إلى تعزيز مليشياتها بالوكالة في العراق وشركائها الحوثيين في اليمن، لكن كلاهما بعيدان جداً عن إسرائيل بحيث لا يشكلان تهديداً كبيراً. كما أن قدرة طهران على تنفيذ العمليات الإرهابية تراجعت بشكل كبير في السنوات الأخيرة نتيجة لتحسن التعاون الاستخباراتي بين الدول منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر وانخفاض احترافية أجهزتها الاستخباراتية ووكلائها.
إن الركيزة البحرية في الثلاثية هي سيف ذو حدين لا يمكن استخدامه إلا في الحالات القصوى. ومن شأن إغلاق مضيق هرمز أن يؤدي إلى نفور الصين (أكبر مستهلك للنفط في المنطقة)، وإحباط الجهود الرامية إلى خلق فجوة بين السعودية والولايات المتحدة، وشل الاقتصاد الإيراني المجهد بالفعل، حيث يمر ما يقرب من جميع وارداتها وصادراتها النفطية عبر المضيق.
وعلى النقيض من ذلك، يمكن وضع ترسانة إيران من الصواريخ الباليستية – التي كان يُقدر عددها بأكثر من 3,000 صاروخ قبل ضربات هذا العام – في العمل خلال ساعات من تلقي الأمر وضرب أهداف على مسافات بعيدة. وإذا أُطلقت بأعداد كافية لاختراق الدفاعات المعادية، فقد يكون لها أيضاً تأثير مادي ومعنوي أكبر بكثير من الهجمات الإرهابية. لكن ضربات أبريل وأكتوبر أثارت الآن تساؤلات حول جدوى هذه الركيزة أيضاً.
وعلى الرغم من تغيّر حظوظ طهران الإقليمية، فمن المرجح أن تتسم استراتيجيتها بالاستمرارية الكبيرة، حيث تمْنع الجمود والقيود المفروضة على هيكل قواتها أي تغييرات جذرية في نهجها الحالي. وكما كتب المحلل إريك أولسون، فإن الاستثمار الإيراني الكبير في الصواريخ الباليستية يخلق اعتماديات مسار سيكون من الصعب التغلب عليها.
لذلك، من المرجح أن تركز إيران بصورة أكثر على الصواريخ، بحثاً عن طرق لتمكينها من اختراق الدفاعات الجوية والصاروخية للعدو وتحقيق قدر أعظم من الدقة.
صواريخ محسّنة وتكتيكات متطوّرة:
تتضمن الصواريخ الإيرانية بالفعل ميزات تصميم ربما تم إعدادها لمواجهة دفاعات العدو.
وفي الواقع، تُظهر الهجمات التي وقعت في أبريل وأكتوبر اتجاهاً نحو الابتكار التقني والتكتيكي المستمر، الذي يتطلب استجابة مستمرة ومبتكرة.
على سبيل المثال، وفقاً لتقييم نُشر عام 2010 من قبل “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية”، بإمكان مركبات إعادة الدخول ثلاثية المخاريط المثبتة على بعض الصواريخ الإيرانية (“قيام-1/2″، “قدر”، “عماد”، “خرمشهر-2″، و”سجيل”) تحقيق سرعات نهائية أكبر عبر تحسين الديناميكا الهوائية، مما يجعل اعتراضها أكثر صعوبة. وتفتقر هياكل الطائرات للصواريخ “قيام-1″ و”خرمشهر” إلى الزعانف الخلفية، ربما لتقليل مقطعها الراداري وجعل اكتشافها أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، يتم صنع مركبات إعادة الدخول ثلاثية المخاريط (وفي بعض الحالات الهياكل) لبعض الصواريخ الإيرانية من مواد مركبة متقدمة قد تجعلها أيضاً أكثر صعوبة في الاكتشاف. كما أن صواريخ “عماد”، و”خرمشهر-2/4″، وخيبر شكان-1/2″، و”فتاح-1/2” تحتوي على مركبات إعادة دخول قابلة للمناورة قد تمكّنها من تفادي أنظمة الاعتراض وتحقيق قدر أكبر من الدقة.
تصورات لخطة إيران:
وفي المرحلة القادمة، ستعمل إيران على زيادة فعالية قوتها من الصواريخ الباليستية بوسائل مختلفة، بما في ذلك دقة أكبر، وتكتيكات متطوّرة، ووسائل (أدوات) اختراق محسّنة وتدابير مضادة، وتطوير مركبات إعادة دخول أسرع وأكثر تقدماً.
– من ناحية تطوير الدقة الأكبر؛ ستساعد هذه القدرة في جعل الصواريخ التي تخترق دفاعات العدو أكثر قدرة على الأرجح على ضرب أهدافها المقصودة. وعلى الرغم من التحسن الكبير في دقة الصواريخ الإيرانية في السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تحقق قدرتها المزعومة على الضرب ضمن عشرات الأمتار من هدفها على مسافات أطول. وبإمكان إيران تحقيق دقة أكبر عبر دعم أنظمة الملاحة بالقصور الذاتي لصواريخها بمدخلات من مصادر أخرى. وتُستخدم أنظمة التوجيه المزدوجة بالفعل في أماكن أخرى – على سبيل المثال، يستخدم صاروخ “ترايدنت – 2 (D5)” الأمريكي الذي يُطلق من الغواصات نظام ملاحة بالقصور الذاتي مع نظام مرجعي نجمي.
– خلق تكتيكات متطوّرة؛ وهي تعد أمرا ملحا بعد فشلها في إحداث أضرار جسيمة للقواعد العسكرية ومقار الاستخبارات بوابل من 100-200 صاروخ، قد تحاول إيران إغراق دفاعات الصواريخ الإسرائيلية بوابل أكبر.
ولكن هذا التكتيك من شأنه أن يستنفد مخزون النظام الصاروخي بسرعة كبيرة، في وقت لا يستطيع فيه النظام إعادة تعبئة مخزونه بسرعة بسبب الغارة الجوية الإسرائيلية في 26 تشرين الأول/أكتوبر على منشآت إنتاج الصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب.
علاوة على ذلك، قد يتطلب المزيد من وابل الصواريخ أن تكمل إيران اعتمادها الأخير على الصواريخ التي تُطلق من قواعد تحت الأرض، مما قد يكشف عن مواقع بوابات الإطلاق غير المعروفة، مما يسهل استهدافها في المستقبل. وقد تهاجم إيران أيضاً دفاعات العدو الصاروخية لتأمين الطريق لضربات لاحقة على أهداف استراتيجية (وهو تكتيك تزعم أنها استخدمته في أكتوبر).
– العمل على إيجاد أدوات اختراق محسّنة وتدابير مضادة؛ تشمل هذه الأدوات القش، أجهزة التشويش، والطُعوم لتحييد دفاعات العدو الصاروخية. ووفقاً لبعض التقارير استخدمت روسيا طُعوم من طراز “9B899” مع صواريخ “إس إس-26 إسكندر-إم” في أوكرانيا لتشويش وخداع رادارات العدو. وإذا كانت إيران غير راضية عن أدوات الاختراق الخاصة بها، فقد تعمل موسكو (وربما كوريا الشمالية) على مساعدة النظام الإيراني على تحسينها أو تطوير أدوات جديدة. وفي الواقع، يُعرض نموذج أولي لمركبة إعادة دخول “غادر” مع حمولة، والتي أفادت بعض التقارير إنها تتكون من أنواع مختلفة من الذخائر الفرعية وأدوات الاختراق في المعرض الدائم “للقوة الجوفضائية” التابعة “للحرس الثوري الإسلامي” في “جامعة عاشوراء للعلوم والتكنولوجيا الفضائية” في طهران. وادّعت تقارير إعلامية إيرانية أن مركبات إعادة دخول مملوءة بالطُعوم والذخائر الفرعية استُخدمت في الهجمات الأخيرة على إسرائيل.
– تطوير مركبات إعادة الدخول التي تفوق سرعة الصوت والقابلة للمناورة؛ حققت إيران تقدماً كبيراً في تطوير الصواريخ المزودة بمركبات إعادة الدخول القادرة على الحفاظ على سرعات تفوق سرعة الصوت وإجراء تصحيحات أثناء منتصف المسار أو مناورات تفادي في المرحلة النهائية من الطيران (باستخدام محركات الدفع الصاروخية أو الأسطح الديناميكية الهوائية المتحركة، على التوالي). وتشمل هذه الصواريخ “خرمشهر-4″، و “خيبر شكان-1/2″، و”فتاح-1/2”.
وفي العام الماضي، كشف “الحرس الثوري الإيراني” عن ما وصفته وسائل الإعلام الإيرانية بأنه مركبة انزلاقية تفوق سرعة الصوت كمرحلة ثانية تعمل بالوقود السائل في الصاروخ الباليستي “فتاح-2″، والذي تدّعي طهران أنها استخدمته في هجوم تشرين الأول/أكتوبر.
– تطوير مركبات إعادة الدخول المتعددة المستهدفة بشكل مستقل (MIRVs) ؛ إذ أن استخدام صاروخ واحد لإطلاق عدة ذخائر ضد نقاط استهداف مختلفة، من شأنه أن يعقّد إلى حد كبير مهمة الدفاع ضد الهجمات الإيرانية.
وعلى الرغم من أن طهران لم تطوّر بعد رأساً حربياً مزوداً بمركبات إعادة الدخول المتعددة، إلا أن صاروخ “أوريشنيك” الباليستي الروسي الجديد متوسط المدى قد أظهر هذه القدرة في أوكرانيا، ومن المرجح أن يلهم جهوداً مماثلة من جانب إيران.
إن الحاجة إلى تطوير المزيد من الوسائل المضادة للدفاعات الصاروخية الإسرائيلية والأمريكية تعني أن طهران قد تضطر إلى إعادة تركيب تعديلات على صواريخها لضمان فعاليتها. وقد تتطلب بعض هذه التعديلات تنازلات في التصميم يمكن أن تؤثر على أداء مركبات إعادة الدخول. علاوة على ذلك، قد تتطلب بعض أدوات الاختراق معرفة عميقة بالدفاعات الإسرائيلية والأمريكية، التي لا تمتلكها إيران حالياً، على الرغم من أنها تعلمت بلا شك دروساً مهمة من تجربتها الأخيرة.