
شيّع حزب الله جثماني الأمين العام السابق للحزب، حسن نصر الله، وقائد العمليات العسكرية، هاشم صفي، في جنازة حاشدة شهدتها الضاحية الجنوبية لبيروت، وسط حضور رسمي وشعبي واسع. وشارك في المراسم آلاف المشيعين، إلى جانب عدد من القيادات السياسية والعسكرية في الحزب وحلفائه.
ويأتي هذا الحدث بعد أقل من 72 ساعة على إصدار البيان الوزاري للحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام، والذي يُنتظر أن يُعرض على مجلس النواب هذا الأسبوع لنيل الثقة، والذي اعتبره البعض مؤشّرًا جديدًا على التغييرات التي طرأت على نهج حزب الله في التعامل مع الواقع السياسي اللبناني.
تقرير جديد نشرته مؤسسة كارنيغي تطرق إلى التحولات السياسية اللبنانية، ولفت إلى أن البيان لم يتضمن الإشارة إلى ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، التي طالما وضعته في موقع موازٍ للمؤسسة العسكرية اللبنانية.
وبدلاً من ذلك، أكد كلٌّ من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، وللمرة الأولى، على “حق الدولة في احتكار حمل السلاح”، مما يعكس تحولًا واضحًا في السياسة الرسمية تجاه ملف سلاح الحزب.
حزب الله والمجتمع الشيعي: عزلة متزايدة
ويثير هذا التطور تساؤلات حول موقع حزب الله داخل المجتمع الشيعي ومستقبله السياسي. فرغم بقاء الطائفة الشيعية جزءًا أساسيًا من المشهد السياسي اللبناني، إلا أن الحزب بات يعاني من العزلة والتراجع في تأثيره الإقليمي.
ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل، أبرزها انشغال إيران بأزماتها الداخلية والخارجية، بما في ذلك العقوبات الأمريكية المشددة، والتهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ضد منشآتها النووية، بالإضافة إلى تحديات خلافة المرشد الأعلى علي خامنئي.
وعلى الصعيد المالي، لم يعد الحزب قادرًا على الاعتماد على التمويل الإيراني كما في السابق، وهو ما انعكس في تصريحات نائب أمينه العام نعيم قاسم، الذي أكد أن “واجب الدولة أن تعمل على إعادة الإعمار”، في إشارة إلى عدم قدرة الحزب على تغطية تكاليف إعادة ما دمرته إسرائيل خلال الصراع الأخير. هذه التصريحات أثارت استياءً واسعًا بين اللبنانيين، الذين ضاقوا ذرعًا بتكرار سيناريو إعادة الإعمار بعد كل مواجهة عسكرية يخوضها الحزب.
المغامرات العسكرية وسوء التقدير
قرار حزب الله بفتح “جبهة الإسناد” دعمًا لغزة جاء بمثابة خطأ استراتيجي جسيم، إذ كشف عن افتقاره للدعم المحلي اللازم لمثل هذه المغامرات العسكرية.
ومع تصاعد الاستياء الشعبي، أصبح الحزب أكثر عزلة من أي وقت مضى، وهو ما يُذكّر بموقفه عام 2005 بعد انسحاب القوات السورية، حين اضطر للتحالف مع التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون لتفادي العزلة السياسية.
إلا أن الظروف اليوم تختلف تمامًا، فالحزب يعاني من تراجع نفوذه الإقليمي بعد خسارة حليفه السوري، وتزايد الضغوط الدولية على إيران، ما يجعله في موقف دفاعي غير مسبوق.
تحديات الداخل والخارج
فشل المشروع الإيراني القائم على دعم وتسليح الجماعات غير الحكومية في تحقيق أهدافه، إذ تراجعت قدرات “محور المقاومة”، وفقد حزب الله العديد من قادته البارزين، مثل حسن نصر الله (الأمين العام السابق) وقاسم سليماني (قائد فيلق القدس).
في الوقت نفسه، تعاني إيران من أزمة اقتصادية خانقة تمنعها من إعادة إحياء هذا المشروع، لا سيما في ظل ازدياد الاستياء الإقليمي من سياساتها التخريبية.
أما على المستوى الداخلي، فإن خيارات حزب الله أصبحت محدودة. فإلى جانب تراجع شرعية استخدامه للسلاح ضد إسرائيل، فإن أي استخدام للقوة ضد اللبنانيين لن يؤدي إلا إلى تفاقم العداء الداخلي، كما حدث عام 2008 حين تسبب تدخله المسلح في بيروت بخلق قطيعة دائمة بينه وبين العديد من الأطراف السياسية اللبنانية.
ومؤخرًا، أدت ممارسات الترهيب التي قام بها أنصاره، مثل الاستعراضات المسلحة بالدراجات النارية، إلى ردود فعل سلبية، ما يعكس تراجع هيمنته حتى داخل مجتمعه.
الشيعة وتحالفاتهم المستقبلية
في ظل هذه المعطيات، يجد الشيعة أنفسهم أمام واقع جديد يفرض عليهم إعادة النظر في تحالفاتهم.
ففي الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تحولات كبرى، مثل صعود النفوذ التركي وتغير موازين القوى في سوريا، قد يصبح التحالف السياسي مع المسيحيين خيارًا مطروحًا لمواجهة التحديات الإقليمية المتزايدة.
فمع إدراك الطوائف اللبنانية المختلفة لحجم الخسائر التي تكبدتها بسبب ارتهانها لقوى خارجية، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في صياغة عقد اجتماعي جديد يعيد التوازن إلى النظام اللبناني.
نحو تجديد وطني شامل
قد يكون الوقت مناسبًا للبدء بحوار وطني حول مستقبل لبنان والعلاقات بين مكوناته الطائفية، بهدف وضع رؤية جديدة تتجاوز اتفاق الطائف وتواكب المتغيرات السياسية والاقتصادية.
ولتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على مبدأ “لبنان أولًا” كخيار جامع لكل الأطراف، بعيدًا عن الحسابات الفئوية الضيقة.
لكن يبقى السؤال: هل تملك الطبقة السياسية القدرة والإرادة لقيادة هذا التحول؟ مع رحيل أو تراجع نفوذ زعماء الحرب القدامى، وبدء مرحلة انتقالية في قيادة البلاد، تلوح في الأفق فرصة لإعادة بناء النظام السياسي على أسس أكثر استقرارًا.
فالورثة الجدد للمنظومة السياسية اللبنانية قد يجدون أنفسهم أمام تحدٍ غير مسبوق، يتمثل في كيفية إدارة دولة تكاد تكون فاشلة، ما قد يدفعهم إلى البحث عن حلول بديلة تتجاوز تركة الفساد والانقسامات.
في النهاية؛ يعتبر حزب الله نتيجة لعجز لبنان عن بناء دولة قوية، وعامل معزز لهذا العجز. لكن المفارقة تكمن في أن وجوده قد يدفع اللبنانيين إلى التفكير بجدية في شكل الدولة التي يريدونها”.
اليوم، وبعد المتغيرات العميقة التي شهدها المشهد اللبناني، يبدو أن الفرصة باتت سانحة لتجديد المشروع الوطني، بعيدًا عن ثنائية الهيمنة والجمود التي حكمت لبنان لعقود.
فهزيمة حزب الله أمام إسرائيل ليست سوى نافذة لإعادة التفكير في مستقبل البلاد، وبناء دولة قادرة على تجاوز عقبات الماضي نحو أفق أكثر استقرارًا وازدهارًا.