
تشهد الساحة العراقية تحولات استراتيجية قد تمنح الولايات المتحدة فرصة نادرة لتقليص النفوذ الإيراني، في ظل متغيرات إقليمية تضع طهران أمام تحديات غير مسبوقة.
فهل تستغل واشنطن هذه اللحظة الحاسمة؟
لطالما اعتبرت إيران العراق امتدادًا حيويًا لنفوذها الإقليمي، فهو ليس مجرد جار جغرافي، بل يمثل ركيزة اقتصادية وأمنية واستراتيجية.
فمن الناحية الاقتصادية، يعد العراق خامس أكبر منتج للنفط عالميًا، ويتيح لطهران تجاوز العقوبات المفروضة عليها من خلال عمليات تهريب النفط والأنشطة التجارية غير المشروعة.
أما عسكريًا، فتستند طهران إلى فصائل مسلحة موالية لها، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، للسيطرة على جزء كبير من المشهد الأمني والاقتصادي العراقي.
إلا أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن قبضة إيران على بغداد لم تعد كما كانت.
فقد امتنعت الميليشيات المدعومة منها عن استهداف القوات الأميركية منذ ديسمبر 2024، خشية ردّ أميركي قوي، فيما قدمت حكومة محمد شياع السوداني، المدعومة من إيران، تنازلات مهمة لواشنطن، مثل إطلاق سراح الباحثة إليزابيث تسوركوف، وتعديل قوانين مالية لصالح الأكراد، وحتى التراجع عن مذكرة اعتقال ضد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
هذه المؤشرات تعكس هشاشة موقف إيران في العراق، وتُبرز الفرصة المتاحة أمام الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المعادلة السياسية لصالحها.
الاستراتيجية الأميركية.. مواجهة غير مباشرة
في واشنطن، يدرك صانعو القرار أن إضعاف النفوذ الإيراني في العراق لا يتطلب تدخلاً عسكريًا مباشرًا، بل يمكن تحقيقه من خلال أدوات دبلوماسية، وعقوبات اقتصادية، وعمليات استخباراتية موجهة.
فالهدف الأساسي يتمثل في تقليص قدرة إيران على استخدام العراق كمصدر تمويل ودعم لوكلائها الإقليميين، خاصة في ظل العقوبات الأميركية التي تعرقل صادرات النفط الإيرانية.
وتسعى واشنطن إلى تفكيك شبكة المصالح الإيرانية في العراق، التي تشمل تهريب النفط، والسيطرة على قطاعات الاتصالات والطاقة، والاستحواذ على أموال من ميزانية الدولة العراقية عبر الحشد الشعبي، الذي يحصل سنويًا على أكثر من 3 مليارات دولار من الحكومة العراقية.
وغالبًا ما تذهب هذه الأموال إلى فصائل مسلحة ترفض سلطة بغداد، وتعمل وفق أجندة طهران، سواء داخل العراق أو في سوريا.
هل تخسر إيران ورقتها الرابحة؟
لا يقتصر النفوذ الإيراني في العراق على المصالح الاقتصادية والعسكرية، بل يمتد إلى الأبعاد السياسية والدينية.
فالعراق يمثل عمقًا استراتيجيًا لإيران، حيث يزوره ملايين الإيرانيين سنويًا لأغراض دينية وتجارية، كما أن السيطرة على العراق تمنح طهران نفوذًا إقليميًا واسعًا ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”.
لكن مع تراجع سيطرة طهران على بيروت بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وتضاؤل نفوذها في سوريا لصالح قوى أخرى، باتت إيران أكثر قلقًا من فقدان العراق.
ومع ذلك، لا تزال تمتلك أدوات فعالة للحفاظ على نفوذها، مثل التأثير في الانتخابات العراقية، ودعم الفصائل السياسية الموالية لها، واستخدام الأراضي العراقية كمنصة لشن هجمات على القوات الأميركية عند الضرورة.
خطوات أميركية لمواجهة النفوذ الإيراني
في ضوء هذه المعطيات، بات واضحًا أن واشنطن تسعى إلى اتباع استراتيجية أكثر صرامة في التعامل مع العراق. من بين أبرز الخطوات المقترحة:
- إنهاء دعم رؤساء الوزراء الموالين لإيران: لم تعد الولايات المتحدة ترى ضرورة في دعم شخصيات مثل محمد شياع السوداني، بل يجب عليها إعلان موقف واضح بعدم استقباله في البيت الأبيض.
- ضمان نزاهة الانتخابات العراقية المقبلة: من خلال مراقبة الانتخابات المقررة في أكتوبر 2025، وفرض عقوبات على أي محاولات إيرانية للتلاعب بها.
- فرض قيود على الدعم المالي للحكومة العراقية: لمنع استخدام الأموال في تمويل الفصائل الموالية لإيران.
- تكثيف العقوبات على الشخصيات العراقية المتعاونة مع طهران: مما يقلل من قدرة إيران على توجيه القرارات السياسية في بغداد.
هل تنجح واشنطن؟
رغم التحديات، يرى خبراء أن تقويض النفوذ الإيراني في العراق قد يمنح الولايات المتحدة ورقة ضغط إضافية في أي مفاوضات مستقبلية مع طهران، لا سيما بشأن الملف النووي.
فمن المعروف أن الإدارات الأميركية السابقة تجنبت استهداف الشبكات الإقليمية لإيران أثناء المفاوضات النووية، إلا أن تراجع نفوذ حزب الله في لبنان، وسقوط نظام الأسد في سوريا، يفتح الباب أمام إعادة تقييم هذه السياسة.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن واشنطن من تنفيذ استراتيجيتها بفعالية، أم أن إيران ستجد طرقًا جديدة لتعزيز نفوذها في العراق كما فعلت مرارًا؟ الإجابة ستتحدد في ضوء التطورات السياسية والأمنية خلال الأشهر المقبلة.