
مع تولي أحمد الشرع رئاسة سوريا خلال الفترة الانتقالية؛ بعد أيام من انتهاء مؤتمر باريس حول مستقبل البلاد، لا يزال الاعتراف الأمريكي بعيدا عن التحقيق.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تناول بالتحليل هذه المسألة، خصوصا وأن أمام واشنطن فرصة للاعتراف بالواقع على الأرض من خلال تقديم الخبرات الاستراتيجية الأمريكية لدعم جهود الإغاثة والتعافي ومكافحة الإرهاب في سوريا.
مخرجات المؤتمر وإشاراته السياسية”
في 13 فبراير الماضي، اجتمع ممثلو الحكومة السورية الانتقالية مع وفود من 19 دولة ضمن التحالف الدولي وأربع منظمات متعددة الأطراف في باريس، حيث وقعوا بيانًا مشتركًا حول مستقبل سوريا.
انطلق البيان من روح قرار مجلس الأمن رقم 2254، داعيًا إلى سوريا موحدة وشاملة من خلال مؤتمر للحوار الوطني يؤدي إلى إصلاح دستوري وانتخابات حرة. كما طالب السلطات السورية باحترام حقوق الإنسان، وتطبيق العدالة الانتقالية، ووقف إنتاج وتجارة الكبتاغون، والقضاء على الجريمة المنظمة، وتدمير الأسلحة الكيميائية، ومنع عودة الجماعات الإرهابية إلى الأراضي السورية.
في المقابل، تعهدت الدول الموقعة بزيادة وتيرة وكمية المساعدات الإنسانية، والمضي قدمًا في إنشاء مجموعة دعم انتقالية لتنسيق الجهود الدولية في سوريا.
لكن اللافت أن الولايات المتحدة حضرت كمراقب فقط دون التوقيع على البيان المشترك، ما أضاع فرصة مهمة للتأثير في مسار المحادثات.
ومع ذلك، فإن المؤتمر أكد التزام المجتمع الدولي بإرساء الاستقرار في سوريا، مع الإشارة إلى ضرورة مشاركة أمريكية أوسع في المؤتمرات القادمة لتوضيح خارطة الطريق المستقبلية بشكل أدق.
استبعاد روسيا وإيران: دلالات واستراتيجيات
لم يشهد المؤتمر حضور روسيا وإيران، اللتين طالما لعبتا دورًا محوريًا في المشهد السوري، كما غابت الصين التي قد تكون لها مصالح اقتصادية هيمنية في مرحلة ما بعد الأسد.
هذا الاستبعاد يبعث برسالة واضحة مفادها أن القوى الغربية لن تسمح لهذه الدول بملء الفراغ في سوريا الناشئة، وهو ما يعكس توجهاً جديداً نحو تحجيم النفوذ الروسي والإيراني.
الحراك الداخلي ومؤتمر الحوار الوطني:
في الوقت ذاته، عقدت دمشق مؤتمرًا للحوار الوطني في 24 و25 فبراير، إلا أن التحضيرات له، بحسب معهد واشنطن، بدت متسرعة.
إذ تم تشكيل اللجنة التحضيرية المؤلفة من 7 أعضاء خلال أسبوع فقط، بينما نُظمت المحادثات بعد يومين فقط من الإعلان عنها، وقبل بداية شهر رمضان مباشرة، مما أثار استياء بعض الأطراف ويفتح المجال أمام اضطرابات مستقبلية.
أمريكا وسيناريوهات الخروج من الأزمة
ورغم أن واشنطن قادت التحالف الدولي ضد تنظيم داعش منذ 2014، فإن سياساتها تجاه سوريا لا تزال مترددة.
فبينما أعلنت إدارة ترامب استمرار محاربة التنظيم، فإن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا لا يزال غامضًا من حيث الجدول الزمني.
كما أن تخفيف العقوبات الاقتصادية على سوريا ظل محدودًا، حيث اقتصر على السماح ببعض المعاملات المالية للحكومة الانتقالية والتحويلات الشخصية لمدة ستة أشهر فقط.
هذا التردد الأمريكي يُعد عقبة أمام وضع خارطة طريق واضحة للتحول في سوريا، ويثير مخاوف لدى حلفاء واشنطن بشأن مكافحة داعش والانخراط المباشر مع القادة الجدد في البلاد.
بدائل مطروحة: تركيا وأوروبا في المشهد
في ظل الغموض الأمريكي، طرحت تركيا مقترحًا لإنشاء قوة إقليمية لمكافحة داعش، تضم قوات من تركيا والعراق والأردن وسوريا.
لكن هذا الاقتراح يفتقر إلى الحماس في بغداد وعمان، كما أن أنقرة تفتقر إلى القدرات اللازمة لتنفيذه بمفردها.
على الجانب الآخر، قدمت الدول الأوروبية مقترحًا أكثر واقعية يتمثل في طلب الرئيس الانتقالي أحمد الشراع من “عملية العزم الصلب” (الذراع العسكرية للتحالف الدولي) البقاء في سوريا.
هذا الطلب، في حال تقديمه، سيخفف من المخاوف المتعلقة بعلاقات الشراع السابقة مع داعش والقاعدة.
في هذا السيناريو، ستتولى فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة قيادة العمليات العسكرية، مع إنشاء غرفة عمليات مشتركة في دير الزور بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (SDF)، التي كانت شريكًا رئيسيًا لواشنطن في الحرب ضد داعش.
التطورات الأوروبية:
تمضي أوروبا قدمًا في تخفيف العقوبات على سوريا دون دعم أمريكي، حيث ألغت في 24 فبراير قيودًا على قطاعات الطاقة والنقل وإعادة الإعمار، كما منحت إعفاءات غير محدودة للمساعدات الإنسانية ورفعت التجميد عن أصول خمسة بنوك، إضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على البنك المركزي السوري.
هذه الخطوات تعكس رغبة أوروبية في سد الفجوة التي تركها التردد الأمريكي.
3 ملفات رئيسية:
مع انتهاء مؤتمر باريس، هناك ثلاث قضايا رئيسية قد تؤثر على استقرار سوريا:
- دمج قوات سوريا الديمقراطية (SDF) في الجيش الجديد:
فقد أصدر زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، عبد الله أوجلان، بيانًا تاريخيًا دعا فيه إلى إنهاء القتال مع تركيا، ما قد يفتح الباب أمام إعادة دمج قوات (SDF) في الجيش السوري.
لكن تفاصيل هذا الدمج لا تزال غير واضحة، ويجب حسم عدة قضايا، مثل السيطرة على المنشآت النفطية والأمن الحدودي وحماية الأكراد من التهديدات التركية.
- دور المجتمع المدني:
تحتاج الحكومة الانتقالية إلى تعزيز تواصلها مع المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها، حيث كانت جهودها حتى الآن تقتصر على وجهاء القبائل ورجال الأعمال والقادة الدينيين.
إن إشراك منظمات المجتمع المدني والشتات السوري سيكون أساسيًا لضمان تحول سياسي ناجح.
- مكافحة الجماعات الجهادية:
ينبغي على دمشق لعب دور فاعل في محاربة داعش ومنع عودته، ويمكنها تحقيق ذلك من خلال قبول المقترح الأوروبي بتمديد “عملية العزم الصلب”، وتقديم معلومات استخباراتية تدعم الضربات الأمريكية ضد فلول القاعدة.
مواجهة القوى المعرقلة
في الأشهر المقبلة، ستحتاج سوريا إلى التعامل مع محاولات عرقلة المرحلة الانتقالية، خصوصًا من:
- روسيا: على الرغم من انشغالها بالحرب في أوكرانيا، لا تزال موسكو تسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا. يتعين على واشنطن وحلفائها الضغط على دمشق لتقليص الاعتماد على روسيا، وقد تلعب أوكرانيا دورًا في هذا الإطار من خلال توفير بدائل للأسلحة السوفيتية التي تحتاجها سوريا.
- إيران وحزب الله: يواصل النظام السوري ملاحقة شبكات تهريب الكبتاغون والأسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله، وهي خطوة إيجابية يمكن لواشنطن توظيفها لكسب دعم إقليمي أوسع. كما ينبغي التنسيق مع قوات (SDF) وتركيا والعراق لاحتواء أي محاولات إيرانية لتعطيل الحوار السوري-الكردي.
ومع استمرار الجهود الدولية، ستتحدد ملامح المستقبل السوري في الأشهر القادمة.
إذا نجحت دمشق وحلفاؤها في استثمار زخم مؤتمر باريس، فقد يصبح الاستقرار في سوريا أمرًا قابلًا للتحقيق، مما يضع حدًا لسنوات من الصراع ويعيد الأمل لشعب أنهكته الحرب.