Podcast Icon
سياسة
أخر الأخبار

مخيم جنين.. معركة ضد البشر والتاريخ والرواية

وسط مشاهد الدمار التي حولت مخيم جنين إلى كومة من الركام، تردد محمود الرخّ في دخول المخيم الذي نشأ فيه، قبل أن يحسم أمره متخفياً بين مجموعة من الصحافيين الذين قرروا التوغل بعد تردد طويل.

الجميع كان يدرك المخاطر: رصاص طائش، احتمال الإصابة أو الاعتقال، وربما الموت. جريدة الشرق الأوسط تحركت عن قرب داخل المخيم لتسلط الضوء على المآسي داخل مسرح عمليات الجيش الإسرائيلي ضد البشر والتاريخ والرواية.

صمت يروي المأساة:

من دوار السينما في جنين إلى مداخل المخيم، كانت الصورة واضحة: جنود مدججون بالسلاح، شوارع مغلقة، ودخان الدمار يلوح في الأفق.

المدخل الرئيسي للمخيم تحول إلى ثكنة عسكرية، لكن الأهالي والصحافيين المحليين أرشدوا الفريق إلى مدخل خلفي عبر المستشفى الحكومي، حيث بدت المشاهد صادمة.

لم يكن في المخيم سوى الخراب، جنود يترقبون، وأنقاض شاهدة على المعارك والحياة التي كانت هنا يوماً.

حتى أسماء الحارات الفلسطينية لم تسلم من المحو، إذ زرع الجيش الإسرائيلي لافتات بأسماء عبرية في محاولة واضحة لفرض واقع جديد، لكنها لم تخدع أحداً، فأبناء المخيم يحفظون أسماء أزقتهم جيداً.

السور الحديدي”.. خطة لتغيير المعادلة

العملية العسكرية الإسرائيلية التي بدأت في 21 يناير، حملت اسم “السور الحديدي”، مستلهمة مناجاتها من عملية “السور الواقي” عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية. هجوم بدأ بغارات جوية، أعقبته اقتحامات برية موسعة شاركت فيها وحدات خاصة، الشاباك، والشرطة العسكرية.

بعد 25 يوماً، كانت حصيلة العملية ثقيلة: 26 قتيلاً فلسطينياً، عشرات المصابين، وتهجير قسري لنحو 20 ألف شخص، أي جميع سكان المخيم دون استثناء.

قاعدة عسكرية أم مخيم لاجئين؟

الصحافي أحمد الشاويش، الذي رافق الفريق، أشار إلى أن الجيش الإسرائيلي يعمل على بناء قواعد عسكرية ثابتة داخل المخيم. تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عززت هذه الفرضية، إذ أكد أن القوات لن تغادر المخيم قريباً.

بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وصف العملية بأنها خطوة لتعزيز الأمن في الضفة، مشيراً إلى أنها تأتي في إطار مواجهة “المحور الإيراني”، لكن الوقائع على الأرض تكشف استهدافاً ممنهجاً للمخيم وسكانه وليس فقط للمسلحين.

قرار الهجوم: توقيت محسوب:

الهجوم على جنين لم يكن مفاجئاً، بل جاء وفق خطة مسبقة انتظرت انتهاء الهدنة في غزة. بعد ثلاثة أيام من بدء سريان الهدنة هناك، قرر الاحتلال نقل المعركة إلى الضفة.

رئيس الشاباك، رونين بار، أوصى بتوسيع العمليات العسكرية، محذراً من أن الهدوء الحالي “مضلل” ولا يعكس حجم التهديد الحقيقي.

وسائل إعلام إسرائيلية ذكرت أن الإفراج عن أسرى فلسطينيين ضمن صفقة غزة كان أحد العوامل التي سرعت الهجوم، إذ اعتبرته تل أبيب محفزاً محتملاً لتصعيد العمليات في الضفة.

جنين.. نسخة مصغرة من غزة

رغم متابعة الأخبار والفيديوهات، لم يكن المشهد في المخيم قابلاً للتصديق. دمار شامل، بيوت مهدمة، شوارع مجرفة، سيارات محترقة، ورائحة الحرائق تملأ الأجواء.

تحرك الفريق الصحافي بحذر شديد، تحت مراقبة الطائرات المسيرة التي تحلق على مدار الساعة. محمود الرخ، رغم تردده، قرر العودة إلى منزله، حيث كانت زوجته بحاجة إلى استعادة بعض الملابس. دخلت زوجته وابنته، وعادتا بملابس ومعاطف، بينما وقف محمود مذهولاً أمام بيته المحترق.

“لقد حوّلوا المخيم إلى غزة ثانية”، قالها محمود بألم، قبل أن يضيف بتصميم: “سأعود، وسأنصب خيمة فوق الركام”.

حرب لم تنته:

في المخيم، لم يكن هناك مقاتلون. “لا أحد هنا سوى الدمار”، هكذا ردّ الصحافيون والأهالي على التساؤلات حول وجود مقاومين. ومع ذلك، تصر إسرائيل على استمرار العملية بزعم “تحييد المسلحين”.

في الوقت نفسه، كانت الجرافات الإسرائيلية تواصل تجريف المخيم، في خطوة قد تعيد تشكيله وفق مخطط جديد، كما فعل الاحتلال سابقاً في مناطق أخرى.

العودة رغم التهجير

في الأزقة التي تحولت إلى كتل من الطين، تناثرت منشورات إسرائيلية تحاول إقناع السكان بأن المسلحين هم السبب في دمار المخيم. أسلوب قديم لم ينطلِ على أحد.

لكن رغم النزوح الجماعي، يتمسك أهالي المخيم بالعودة. أحمد سمارة، أحد السكان، يتسلل يومياً إلى منزله المدمر، ينظر إليه، يسلّم عليه، ويغادر. “سأعود”، قالها بحزم، “سنُعيد بناء المخيم بأيدينا”.

إن الخروج من المخيم لم يكن أقل صعوبة من دخوله. في طريق العودة، انتشرت الحواجز العسكرية، وفرض الجنود تفتيشاً دقيقاً على المركبات والهواتف.

عند الوصول إلى المستشفى الحكومي، تنفس الجميع الصعداء. “لقد نجونا”، قالها أحد الصحافيين، فيما همس الآخرون “الحمد لله على السلامة”.

ورغم المأساة، يظل المخيم شاهداً على إرادة الحياة. فكما عاد أهله بعد معركة 2002، سيعودون هذه المرة أيضاً، حاملين معهم روايتهم، التي لن تستطيع الجرافات الإسرائيلية محوها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى