
يستمر التوتر الدبلوماسي بين فرنسا والجزائر في التصاعد، مدفوعًا بتراكم ملفات سياسية وقضائية حساسة، مما يعكس ديناميكيات معقدة تتجاوز مجرد الخلافات الثنائية.
فبينما يتبادل الطرفان الاتهامات حول عدم الإيفاء بالالتزامات، يظهر أن الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف دبلوماسي تقليدي، بل تتداخل فيها مصالح سياسية داخلية لكل من باريس والجزائر، حيث يبدو أن كلا الجانبين يوظفها لتعزيز مواقعه الداخلية.
من الصحراء الغربية إلى القضاء
اندلعت شرارة الأزمة الأخيرة بعد اعتراف باريس بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في يوليو الماضي، وهو ما اعتبرته الجزائر، الداعمة لجبهة البوليساريو، خيانة لموقف الحياد الفرنسي السابق.
ردًّا على ذلك، سحبت الجزائر سفيرها من باريس، ليتبع ذلك سلسلة من الخلافات والتصريحات المتبادلة التي زادت من حدة الأزمة.
التصعيد الأخير تمثل في رفض القضاء الفرنسي تسليم الوزير الجزائري السابق عبد السلام بوشوارب، المدان في بلاده بتهم فساد، بحجة حالته الصحية وسنه المتقدم.
هذا القرار أثار غضب الجزائر، التي نددت بما وصفته بـ “الغياب التام لتعاون الحكومة الفرنسية”، معتبرة أن باريس تخلّ بالتزاماتها ضمن الاتفاقيات القضائية الثنائية.
حسابات سياسية تغذي الأزمة
يتضح أن التصعيد بين البلدين ليس فقط نتاج تباين المواقف الدبلوماسية، بل هو أيضًا انعكاس لصراعات سياسية داخلية.
فمن الجانب الفرنسي، يواصل وزير الداخلية برونو ريتايو إطلاق تصريحات متشددة تجاه الجزائر، وهو ما يثير جدلًا واسعًا داخل فرنسا نفسها.
صحيفة لاكروا الفرنسية حذرت من أن ريتايو يستخدم هذه الأزمة لتعزيز نفوذه السياسي ضمن التيار اليميني، مشيرة إلى أن هذه الاستراتيجية قد تلحق الضرر بالمصالح الفرنسية على المدى الطويل.
أما في الجزائر، فيبدو أن الرئيس عبد المجيد تبون يستغل الأزمة لتعزيز شعبيته، من خلال تصوير نفسه في موقف مواجهة ضد فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة.
ويبدو أن هذه الاستراتيجية تهدف أيضًا إلى إسكات المعارضة الداخلية، حيث يهيمن الخطاب التعبوي المناهض لفرنسا على الإعلام الجزائري، في ظلّ محدودية المساحة المتاحة لانتقاد سياسات الحكومة.
التصعيد إلى أين؟
مع استمرار تمسك كل طرف بمواقفه، وعدم وجود مؤشرات على تهدئة قريبة، تتزايد المخاوف من أن تؤدي هذه الأزمة إلى قطيعة أعمق بين البلدين، وهو ما قد تكون له تداعيات سلبية على العلاقات الاقتصادية والأمنية، فضلًا عن تأثيره على الجالية الجزائرية الكبيرة في فرنسا.
تدعو بعض الأصوات إلى ضرورة التهدئة وفتح قنوات حوار، إلا أن الأوضاع الداخلية في كلا البلدين تجعل من التصعيد خيارًا جذابًا للقادة السياسيين، سواء لتعزيز المواقع الداخلية أو لمغازلة تيارات سياسية معينة.
وبالتالي، فإن مستقبل الأزمة بين باريس والجزائر سيظل مرهونًا بمدى استعداد الطرفين للفصل بين خلافاتهما الدبلوماسية ومصالحهما السياسية الداخلية.