
بعد سنوات من الصراع، عادت هدى خيطي إلى مسقط رأسها في دوما، حيث واجهت مدينة أنهكتها الحرب، لكنها وجدت في هذا الدمار دافعًا لتكريس حياتها لإعادة بناء سوريا جديدة.
لطالما آمنت خيطي بأن لحظة التغيير ستأتي، وعلى الرغم من سنوات الحرب الطويلة التي كادت تهمش القضية السورية، إلا أن الأمل لم يفارقها. “كنت على يقين بأننا سنطيح يومًا ما بنظام الأسد”، قالت في حديثها لـ DW عبر الهاتف.
وفي ديسمبر الماضي، عندما أطاحت جماعة “هيئة تحرير الشام” بالنظام السوري في خطوة غير متوقعة، غمرتها مشاعر لا تستطيع التعبير عنها بالكلمات.
ورغم أن انهيار النظام فتح صفحة جديدة في تاريخ سوريا، إلا أنه أثار العديد من التساؤلات حول المستقبل المجهول.
العودة إلى دوما.. بين الذكريات والدمار
لم تكن رحلة العودة إلى دوما سهلة. منذ اللحظة التي غادر فيها الأسد البلاد، قررت خيطي العودة من إدلب إلى مدينتها، رغم الخوف الذي كان يزداد مع كل كيلومتر تقطعه.
عند وصولها، لم تجد سوى الركام والذكريات المتناثرة بين الأنقاض. وحين دخلت منزل والديها، وجدت جدرانه مثقوبة بالرصاص وسقفه منهارًا. لم تحتمل البقاء داخله سوى لخمس دقائق، حيث لا تزال آثار الغارة الجوية التي أودت بحياة شقيقها ماثلة أمامها.
لم تتمكن حتى من العثور على قبر شقيقها، قائلة بحزن: “لا أعرف أين دفنوه. ربما يكون في مقبرة جماعية”.
لكن وسط الخراب الرمادي، لاحت لها رائحة الياسمين، وكأنها تذكرها بأن الحياة لا تزال ممكنة. عندها، اتخذت قرارها: “لقد حاربت ضد الأسد، وسأعيش لإعادة بناء هذا البلد”.
زرع الأمل وسط الأنقاض
أولى مبادرات خيطي كانت زراعة الأشجار والزهور في دوما، بدعم من الدفاع المدني السوري ومنظمات أخرى.
“هذه إشارة إلى عودة الحياة. سوريا ليست فقط أرض الجروح، بل هي أيضًا أرض الأمل”، تقول خيطي.
وُلدت خيطي في دوما ودرست الأدب الفرنسي في دمشق، لكن وعيها السياسي تشكّل مبكرًا، قبل اندلاع الانتفاضة الديمقراطية عام 2011. أدركت منذ البداية حجم القمع الذي يمارسه النظام، خاصة ضد النساء، ولهذا أسست ثلاثة مراكز نسائية في الغوطة، حيث قدمت دورات في اللغة الإنجليزية، وحقوق المرأة، والإسعافات الأولية.
لكن مع تصاعد الحرب، لم تكن هذه المراكز بمنأى عن الاستهداف. ففي عام 2013، تعرضت الغوطة لهجوم كيماوي مروع، ثم تلا ذلك قصف دمر جميع مراكزها.
من الغوطة إلى إدلب
في عام 2018، ومع استعادة قوات النظام لدوما، اضطر آلاف السكان للفرار إلى إدلب، آخر معاقل المعارضة، حيث استقرت خيطي أيضًا.
رغم التحديات التي فرضتها “هيئة تحرير الشام”، تمكنت خيطي من تأسيس مركز نسائي في إدلب. “لم يكن الأمر سهلًا، لكننا وجدنا طريقة للاستمرار”، تقول.
وفي ديسمبر 2024، عندما أطاحت “هيئة تحرير الشام” بالنظام بقيادة أبو محمد الجولاني، الذي أصبح يُعرف الآن باسم أحمد الشرع، لم تستطع خيطي تمالك مشاعرها. هرعت إلى ساحة الحرية في إدلب، حيث احتضنت الناس، وبكت وضحكت في آنٍ واحد.
“إدلب احتضنتنا عندما نزحنا، والآن نقف هنا ونشعر أن عهدًا جديدًا قد بدأ”، تقول.
تحديات ما بعد الأسد
مع انهيار النظام، بدأت خيطي رحلة العودة إلى دوما، موثقة مشاعرها عبر مقاطع فيديو، وهي ترفع العلم السوري الجديد، وتبعث برسائل إلى أصدقائها: “انظروا أين أنا، لقد عدنا”.
لكنها تدرك أن التحديات لا تزال قائمة. “الاقتصاد منهار، والوضع الأمني هش”، تقول.
بعد 14 عامًا من الحرب وزلزال مدمر عام 2023، لا تزال البلاد تعاني من أزمة إنسانية خانقة. فبحسب منظمة “أطباء بلا حدود”، يعتمد 16.7 مليون شخص على المساعدات، فيما ذكرت “اليونيسيف” أن مليوني طفل خارج النظام التعليمي، مع تدمير 7,000 مدرسة خلال النزاع.
رؤية للمستقبل رغم الضبابية
وفي يناير 2025، أصبح أحمد الشرع رئيسًا مؤقتًا لسوريا. ورغم أنه كان زعيمًا سابقًا لميليشيا “هيئة تحرير الشام” المصنفة كجماعة إرهابية، إلا أن العديد من السوريين يرون فيه محررًا لدمشق، رغم تحفظاتهم على تاريخه.
وتتذكر خيطي الاحتجاجات التي اندلعت ضد “هيئة تحرير الشام” في إدلب قبل عام، قائلة: “لكن الآن، أصبحوا مسؤولين عن سوريا بأكملها”.
ورغم الشكوك، يركز السوريون اليوم على إعادة الإعمار. وتخطط خيطي لتوسيع نشاطها بفتح مراكز نسائية في عدة مدن، وتشجيع النساء على المشاركة السياسية، إلى جانب إنشاء منظمة لحماية البيئة.
“نرحب بأي دولة تساعدنا في إعادة البناء”، تؤكد، لكنها تشدد: “لكننا لا نريد المزيد من التدخل الأجنبي هنا”.