العودة المستحيلة.. نازحو السودان يواجهون مستقبل غامض

يواجه ملايين السودانيين الذين فروا من مناطق القتال صعوبات هائلة في العودة إلى بيوتهم، وسط تردٍّ أمني واقتصادي ونقص حاد في الخدمات الصحية. فمنذ اندلاع القتال في العاصمة الخرطوم منتصف أبريل 2023 وتمدده إلى أكثر من 70% من مناطق البلاد خلال الأشهر اللاحقة، تشير تقديرات منظمة الهجرة الدولية إلى أن أكثر من 15 مليون شخص فروا من مناطقهم، منهم أكثر من 11 مليون نزحوا داخليًا، فيما اختار أكثر من 3 ملايين عبور الحدود إلى دول مجاورة.
وتعدّ ولاية الخرطوم الأكثر تضررًا، إذ نزح منها حوالي 31% من سكانها، وتحولت بعض أحيائها إلى مناطق مهجورة، ما يعكس عمق الأزمة التي تعصف بالبلاد.
التحدي الأمني.. حرب لم تنتهِ بعد
يرى مهيد التاج، الضابط السابق في الجيش السوداني، أن أهم شرط للعودة الكاملة للنازحين هو الوصول إلى نهاية حقيقية للحرب، وهو ما يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي. لكنه يشدد على أن وقف القتال وحده لا يكفي لتحقيق عودة سريعة للسكان، موضحًا: “الحرب خلّفت آثارًا قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، وبالتالي فإن التحديات لا تقتصر فقط على انتهاء القتال، بل تشمل الأمن والاستقرار المجتمعي”.
ويضيف التاج، في تصريح لموقع سكاي نيوز عربية، أن رغبة النازحين في العودة قوية، لكن المخاوف الأمنية تجعل العودة محفوفة بالمخاطر، لا سيما أن فترات ما بعد الحرب تكون الأصعب بسبب التدهور الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي يتركه النزاع.
وتشير تقارير حقوقية إلى حوادث قتل تعرض لها بعض العائدين بسبب انفجار ألغام ومخلفات حرب لم يتم تطهيرها بعد. ويؤكد خبير في مجال المفرقعات، طلب عدم الكشف عن هويته، أن مناطق واسعة من الخرطوم ومدن أخرى شهدت عمليات قتال عنيف، ما يجعلها غير آمنة بسبب انتشار الألغام والمواد المتفجرة.
ويحذر المصدر ذاته، عبر سكاي نيوز عربية، قائلًا: “على السكان التروي قبل العودة، خصوصًا في الأحياء التي شهدت مواجهات طويلة. لا تزال هناك مخازن أسلحة وذخائر لم يتم التعامل معها، وبعضها قد ينفجر في أي لحظة”.
المعضلة الاقتصادية.. وطن بلا وظائف
تشكل الأزمة الاقتصادية عائقًا رئيسيًا أمام عودة النازحين، إذ دمّرت الحرب البنية التحتية وأدت إلى توقف النشاط الإنتاجي في معظم القطاعات.
ويؤكد الخبير الاقتصادي عمر سيد أحمد، في تصريح لموقع سكاي نيوز عربية، أن عودة النازحين قد تسهم في إعادة البناء، لكن الوضع الحالي يجعل هذه العملية شبه مستحيلة. ويشرح قائلًا: “معظم العائدين لن يجدوا وظائف، فالحرب دمرت المؤسسات الإنتاجية في القطاعات الصناعية والزراعية والمصرفية، وارتفعت تكاليف المعيشة بمعدلات تفوق 400% منذ اندلاع النزاع”.
ويضيف سيد أحمد أن الخرطوم وحدها فقدت نحو 65% من الوظائف، إذ توقف أكثر من 90% من مؤسسات القطاع الخاص عن العمل. كما خرج 400 مصنع عن الخدمة بسبب النهب والتدمير، بينما توقفت 270 مجمعًا للورش الحرفية وأكثر من 3200 ورشة صغيرة، ما أدى إلى انهيار مصادر الدخل لمئات الآلاف من الأسر.
المخاطر الصحية.. وباءٌ قادم من تحت الأنقاض
يواجه العائدون كارثة صحية وبيئية بسبب خروج أكثر من 70% من المؤسسات الصحية عن الخدمة، إضافة إلى انتشار الأمراض المعدية وتراكم مخلفات الحرب.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى انتشار واسع للأوبئة في المناطق المتأثرة بالحرب، خاصة في ظل تحلل آلاف الجثث التي دُفنت داخل الأحياء السكنية والمنازل بسبب الظروف الأمنية.
وفي هذا السياق، يوضح عبد الماجد مردس أحمد، خبير الصحة العامة بوزارة الصحة السودانية وعضو الجمعية الملكية البريطانية لتعزيز الصحة، في حديثه لموقع سكاي نيوز عربية، أن تحلل الجثامين في بيئة غير مخصصة للدفن يشكل خطرًا كبيرًا على مصادر المياه والتربة، ما يؤدي إلى تفشي أمراض مثل الكوليرا، التيفوئيد، والتهاب الكبد الفيروسي.
كما يلفت مردس إلى أن نفايات الحرب، مثل الذخائر غير المنفجرة والمعدات العسكرية المهجورة، تحتوي على مواد سامة كالرصاص والزئبق واليورانيوم المستنفد، ما يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان، والتشوهات الخلقية، وأمراض الجهاز التنفسي.
ويضيف أن الأوضاع الصحية تتفاقم بسبب انتشار الجرذان والذباب، التي تنقل الأمراض للإنسان، إلى جانب التلوث الكيميائي الناتج عن تدمير المنشآت الصناعية والتجارية.
العودة المؤجلة.. مستقبل غامض لنازحي السودان
في ظل هذه التحديات الأمنية والاقتصادية والصحية، تظل عودة النازحين إلى ديارهم أمرًا صعب التحقيق في المستقبل القريب. فالمدن التي دمرتها الحرب تحتاج إلى جهود إعادة إعمار هائلة، كما أن الأوضاع الأمنية لا تزال غير مستقرة، مما يجعل العودة محفوفة بالمخاطر.
وبينما ينتظر ملايين النازحين بارقة أمل تتيح لهم العودة إلى حياتهم الطبيعية، يبقى السؤال الأكبر: هل يستطيع السودان تجاوز محنته وإعادة بناء ما دمرته الحرب؟