
تشهد المنطقة سلسلة من الاجتماعات المصيرية هذا الشهر، والتي من المتوقع أن تعيد تشكيل المشهد السياسي الإقليمي والتحالفات العالمية، مع بروز السعودية كوسيط رئيسي في تسوية النزاعات العربية والدولية.
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية سلطت الضوء على التحركات الأخيرة التي رافقت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وسياساته التي اتسمت بالتقلبات الحادة.
فعلى مستوى التجارة والطاقة وحتى الرياضة، يبدو ترامب أكثر انفتاحًا على التعاون مع القيادة السعودية مقارنة بسلفه جو بايدن. لكن على صعيد القضايا الأمنية الكبرى، خاصة ما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل ومستقبل الفلسطينيين في غزة، تبدو الرياض وواشنطن على مسار تصادمي.
وكشف مستشار سياسي بارز في الرياض لصحيفة واشنطن تايمز أن هذه الاجتماعات تعكس تحوّلًا جذريًا في موازين القوى العالمية.
ويجري الحديث عن مدينة جدة كموقع محتمل لاجتماع يجمع بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطوة قد تُعد نقطة تحول في العلاقات الروسية-الأمريكية.
وقبل ذلك، انعقد في الرياض الأسبوع الماضي، قمة عربية مصغرة تركز على الأوضاع الكارثية في غزة ومقترح ترامب المثير للجدل بوضع القطاع تحت إدارة أمريكية.
وقال المستشار: “هذه المناقشات تدور حول إعادة ترتيب العلاقات الدولية، حيث تبرز السعودية كوسيط إقليمي رئيسي.” وأضاف: “مع تراجع الإسلام السياسي وانحسار الاشتراكية العربية، ستصبح السياسة في النهاية مسألة أسعار وتفاوض استراتيجي.”
موقف عربي موحد تجاه غزة
تركز الدول العربية أيضًا على خطتها الخاصة بإعادة إعمار غزة، والتي لا تتضمن مقترح ترامب القاضي بترحيل الفلسطينيين إلى دول عربية أخرى.
واستضافت السعودية اجتماعًا يوم الجمعة الماضي لتنسيق الالتزامات المالية، فيما يعقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية في القاهرة يوم 4 مارس، ليكون منصة سياسية لمعارضة أي مخططات لتهجير الفلسطينيين قسرًا.
وعلى مدى عقود، شددت الرياض على أن التطبيع مع إسرائيل لا يمكن أن يتم إلا بعد التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، مع بقاء سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون شخص على أرضهم.
وقد رفض المسؤولون العرب مرارًا مقترحات مثل تلك التي قدمها ترامب، والتي تهدف إلى توطين فلسطينيي غزة في أماكن أخرى.
وكانت الأردن، التي تربطها علاقات رسمية بإسرائيل وتعد من أقرب الدول العربية إلى الولايات المتحدة، من أوائل الدول التي رفضت فكرة ترامب، حتى بعد زيارة الملك عبد الله الثاني إلى البيت الأبيض الشهر الماضي.
إعادة إعمار غزة
تتصدر خطة إعادة إعمار غزة، بتمويل من دول الخليج، جدول أعمال الرياض. ومن المتوقع أن تساهم دول مجلس التعاون الخليجي في تمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة لإعادة بناء القطاع بعد الحرب الإسرائيلية التي استمرت 15 شهرًا.
كما تضغط السعودية، بالتنسيق مع قطر ومصر والإمارات، على حركة حماس لتقليص سيطرتها على غزة في خطوة يطلق عليها اسم “التنحي”.
وأوضح مسؤول استخباراتي إسرائيلي سابق أن الهدف ليس القضاء على حماس بالكامل، كما ترغب إسرائيل، بل دفعها إلى تقليص دورها مؤقتًا، مما يسمح بإعادة الإعمار دون فرض تهجير قسري.
وأكد أن “الاجتماع يتمحور حول اللوجستيات والتمويل – فهو بمثابة مخطط عملي لإعادة إعمار غزة.”
وأضاف أن العلاقة القوية بين ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عززت الروابط بين واشنطن والرياض، إلا أن مقترحات البيت الأبيض الأخيرة حول غزة خلقت توترات بين الجانبين.
وأشار إلى أن “ولي العهد لا يعمل بمعزل عن السياق العام، فهناك سلسلة معقدة من عمليات صنع القرار في السعودية، وفي النهاية، كل شيء يخضع للحسابات الاستراتيجية.”
النفط والاستراتيجية
مع اقتراب موعد تنفيذ رؤية 2030، تواجه السعودية ضغوطًا متزايدة لإنجاز مشاريع البنية التحتية الضخمة، وإدارة التكاليف، وجذب الاستثمارات الأجنبية لتنويع الاقتصاد.
وتعتمد المملكة بشكل كبير على عائدات النفط لتمويل هذه المبادرات، إلا أن دعوات ترامب الأخيرة لخفض أسعار النفط تهدد بتعطيل خططها الاقتصادية.
وفي هذا السياق، قال علي باكير، الأستاذ بجامعة قطر، إن مطالبة السعودية بتخفيض أسعار النفط تتجاهل استراتيجيتها الأوسع.
وأوضح أن “الضغوط على الرياض لخفض الأسعار تتغافل عن حقيقة أن الأسعار المرتفعة تمثل عنصرًا محوريًا في رؤية المملكة الاستراتيجية – إذ توفر التمويل اللازم لبرامج التحول الاقتصادي مثل رؤية 2030، وتعزز طموحاتها الجيوسياسية.”
وأضاف أن اتهامات ترامب للسعودية بتأجيج النزاعات الإقليمية عبر الإصرار على إبقاء أسعار النفط مرتفعة، تندرج ضمن حملة أوسع لإعادة تشكيل تحالفات الشرق الأوسط والضغط من أجل مزيد من الاعتراف العربي بإسرائيل.
معركة سياسية في القاهرة
يُظهر الاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية في القاهرة، تباينًا واضحًا مع الاجتماع التقني في الرياض.
ففي حين يركز لقاء الرياض على تأمين التمويل لإعادة إعمار غزة، يسعى اجتماع القاهرة إلى إصدار إدانة رسمية لأي خطط تهدف إلى تهجير الفلسطينيين.
وأكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، أن القاهرة ترفض أي محاولة لترحيل الفلسطينيين قسرًا.
وقال: “أكدنا أهمية تبني المجتمع الدولي لخطة إعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين – أكرر، دون تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.”
وشدد على ضرورة الالتزام باتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل، ومواصلة تبادل الأسرى، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
وتعمل مصر على خطة إعادة إعمار طويلة المدى، تتضمن مرحلة أولية تمتد من 10 إلى 20 عامًا، يليها مسار طويل الأمد نحو حل الدولتين.
وبينما أبدت حماس انفتاحًا على هدنة طويلة، إلا أنها ترفض التنازل عن السيطرة الكاملة على غزة، وهو موقف تدعمه قطر، بينما تسعى حركة فتح والسلطة الفلسطينية إلى استعادة السيطرة على القطاع.
وفي ظل هذه التوترات، أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غضبًا واسعًا بعد اقتراحه أن لدى السعودية مساحة كافية لتوطين فلسطينيي غزة، وهو ما قوبل برفض قاطع من الرياض.
وقال المتحدث باسم حركة فتح، حسين حمايل: “لن تقبل فتح بأي ترتيبات دولية أو إقليمية تعيد تشكيل المشهد الفلسطيني خارج إطار منظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.”
وفي تصريح لصحيفة عكاظ، وصف أحد أعضاء مجلس الشورى السعودي السياسة الخارجية الأمريكية بأنها “تمكّن الاحتلال غير الشرعي للأراضي الفلسطينية وتسهم في التطهير العرقي لسكانها.”
ومع انعقاد القمتين العربية والخليجية، تبدو الرسالة واضحة من القادة العرب: أي محاولة لترحيل الفلسطينيين ستواجه رفضًا موحدًا.
وبينما يركز اجتماع الرياض على الجوانب الفنية والتمويل، فإن قمة القاهرة مكرسة لتوجيه رسالة دبلوماسية حاسمة ضد التهجير القسري، في خطوة تهدف إلى التأثير على واشنطن وصناع القرار العالميين.