Podcast Icon
سياسة
أخر الأخبار

التحوّل السعودي: مقاربة جديدة للقوة الناعمة

شهدت المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة تحوّلاً ملحوظًا في توجهاتها الدينية والإيديولوجية، مع سعي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى تقليص نفوذ التيار السلفي المتشدّد وتعزيز خطاب ديني أكثر اعتدالًا.

يهدف هذا التوجّه إلى التخفيف من تداعيات التفسيرات المتطرّفة، وتعزيز صورة المملكة على الساحة الدولية، بما ينسجم مع القيم العالمية والتطورات المجتمعية الحديثة.

الباحث السعودي هشام الغنام ​​​مدير مركز البحوث الأمنية والمشرف العام على برامج الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب في جامعة نايف للعلوم الأمنية وعضو المجلس العلمي في الجامعة، طرح تحليلا معمقا حول هذا التحول.

وأشار الغنام، وهو أيضاً باحث غير مقيم في معهد مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط، إلى أن هذا التحوّل يترافق مع إدراك متزايد، داخل المملكة وخارجها، للروابط المحتملة بين بعض تعاليم السلفية والتطرف.

وفي هذا السياق، سعت الرياض إلى تقليص دعمها لهذا التيار، في محاولة لدحض الاتهامات التي تربطها بتمويل الجماعات المتشدّدة، فضلًا عن مواجهة المخاطر الأمنية التي قد تنشأ عن انتشار هذه الجماعات، لا سيما بعد أحداث “الربيع العربي” في 2011 وصعود الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط.

الدعم السعودي التاريخي للسلفية:

فقد ارتبطت الدولة السعودية تاريخيًا بالسلفية منذ تحالفها مع الداعية محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر.

وقد منح هذا التحالف الحكم السعودي شرعية دينية وساهم في نشر الفكر السلفي داخل المملكة وخارجها، وخلال العقود الماضية، استخدمت السعودية السلفية كأداة لتعزيز قوتها الناعمة عالميًا.

فمنذ الثمانينيات، استثمرت المملكة مليارات الدولارات في نشر الفكر السلفي عبر بناء المساجد والمدارس الدينية، وتقديم المنح الدراسية، وطباعة الكتب الدينية.

وقد عزّزت هذه الجهود نفوذ السعودية في الدول الإسلامية، لا سيما في مواجهة التيارات المنافسة مثل القومية العربية والتشيّع السياسي بعد الثورة الإيرانية عام 1979.

ولعبت مؤسسات سعودية، مثل الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، دورًا محوريًا في نشر الفكر السلفي عالميًا.

وكان لطلابها، خصوصًا في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، دور أساسي في توطيد النفوذ السعودي في مجتمعاتهم. كما ساهم الدعم السعودي في تعزيز المذاهب السلفية في باكستان، حيث دعمت المملكة المدارس الدينية التي لعبت دورًا في مواجهة النفوذ السوفيتي في أفغانستان خلال الثمانينيات.

على المستوى الجيوسياسي، استُخدمت السلفية كوسيلة لمواجهة النفوذ الإيراني، حيث دعمت الرياض الجماعات السلفية في اليمن وسوريا كجزء من استراتيجيتها لموازنة القوى في المنطقة.

ففي اليمن، قدمت المملكة دعمًا لألوية العمالقة وحزب اتحاد الرشاد السلفي لمواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، أما في سوريا، فقد دعمت جيش الإسلام في الغوطة الشرقية لمواجهة النظام السوري والتنظيمات الأكثر تطرفًا.

تحوّل الرياض بعيدًا عن السلفية:

مع صعود الأمير محمد بن سلمان، شهدت السياسة السعودية تحوّلًا تدريجيًا عن دعم السلفية، في إطار رؤية أوسع تهدف إلى تحديث المملكة اقتصاديًا واجتماعيًا عبر “رؤية 2030”.

تزامن هذا التوجّه مع رغبة الرياض في تعزيز علاقاتها مع الدول الغربية والاقتصادات الناشئة، حيث أصبحت الحاجة إلى استثمارات أجنبية دافعًا أساسيًا لتخفيف القيود الاجتماعية وتقليل الارتباط بالإيديولوجيات الدينية.

إلى جانب ذلك، تزايدت المخاوف من أن استمرار دعم الجماعات السلفية قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي والإقليمي.

ولهذا، بدأت السعودية بتقليص تمويل المساجد والمؤسسات الدينية السلفية في أوروبا وأفريقيا، وأغلقت أكاديمية الملك فهد في بون بألمانيا، كما تخلّت عن إدارة المسجد الكبير في بروكسل.

لكن هذا التحوّل لم يكن خاليًا من التحديات. فمن جهة، قد يؤدي تقليص الدعم للسلفية إلى فقدان المملكة جزءًا من نفوذها الديني، مما يفسح المجال أمام قوى أخرى مثل إيران أو التنظيمات الجهادية لملء الفراغ.

ومن جهة أخرى، قد يدفع بعض الجماعات السلفية إلى التطرف أو البحث عن داعمين جدد.

تحديات واستراتيجيات التوازن:

رغم تقليص دعمها الرسمي للسلفية، لا تزال السعودية تتبنّى نهجًا براغماتيًا في التعامل مع الجماعات السلفية وفقًا لمصالحها السياسية.

ففي اليمن، تستمر المملكة في دعم القوى السلفية لمواجهة الحوثيين، مما يعكس تباينًا بين خطابها الإصلاحي ونهجها العملي.

في الوقت ذاته، تحاول الرياض إعادة تشكيل دورها القيادي في العالم الإسلامي عبر مقاربات أكثر انفتاحًا، تعزّز من خلالها صورتها كدولة حديثة ومتطورة، مع الحفاظ على شرعيتها الدينية.

ويبدو أن السعودية تسعى لتحقيق توازن دقيق بين الابتعاد عن السلفية المتشددة من جهة، والحفاظ على تأثيرها الديني والإقليمي من جهة أخرى.

أخيرا؛ يمثل التحوّل السعودي عن السلفية اختبارًا لمستقبل دور المملكة في العالم الإسلامي.

فبينما تسعى الرياض إلى تعزيز علاقاتها مع الغرب وتحقيق انفتاح اقتصادي واجتماعي، تواجه تحدي الحفاظ على نفوذها الديني والجيوسياسي.

ويبقى نجاح هذا التوجّه مرهونًا بقدرة القيادة السعودية على تحقيق التوازن بين الاستمرارية والتغيير، بما يضمن استقرار المملكة ودورها الإقليمي في السنوات المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى