
يمثل الاتفاق الحدودي بين لبنان وسوريا، الذي تم التوصل إليه في جدة، نقطة تحول جوهرية في العلاقة بين البلدين، حيث يتيح فرصة حقيقية لحل إحدى أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ المنطقة، وهي مسألة ترسيم الحدود، التي تعود جذورها إلى عشرينات القرن الماضي، وازدادت تعقيدًا منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011.
وقد ترافق ذلك مع تراجع سلطة الحكومة اللبنانية أمام تنامي نفوذ الميليشيات المسلحة.
تحولات إقليمية
جاء الاتفاق في سياق تغييرات استراتيجية شهدتها المنطقة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وانحسار نفوذ “حزب الله” بعد حرب مكلفة مع إسرائيل.
هذه التطورات أسهمت في تغيير موازين القوى، مما أتاح للسعودية، التي تسعى إلى استعادة دورها القيادي في العالم العربي، لعب دور الوسيط والضامن في هذا الاتفاق، لا سيما بعد تراجع نفوذ إيران إثر الانكسارات التي أصابت وكلاءها في الإقليم.
تم توقيع الاتفاق بين وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة ونظيره اللبناني ميشال منسى في جدة، بحضور وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان.
وقد ركزت بنوده على ترسيم الحدود، وتشكيل لجان قانونية وفنية متخصصة، وتعزيز آليات التنسيق الأمني والعسكري للتعامل مع التحديات المشتركة.
أهمية الاتفاق من منظور أمني واستراتيجي
يرى الباحث نوار شعبان من مركز حرمون للدراسات المعاصرة أن الاتفاق يمثل “فرصة ذهبية لإعادة بناء العلاقات على أسس واضحة”، خاصة بوجود حكومتين جادتين وضامن دولي يضمن تنفيذ الاتفاق.
كما اعتبر أن نجاحه سيؤدي إلى إنهاء وجود خلايا تخريبية، وقطع شبكات التهريب التي طالما استخدمت الحدود كمنطقة إسناد لوجستي بين جماعات مسلحة ومهربين.
تعقيدات الوضع الأمني
شهدت المنطقة الحدودية تصاعدًا في التوترات الأمنية بعد سقوط النظام السوري، حيث اندلعت مواجهات بين الجيش السوري ومجموعات التهريب اللبنانية المدعومة من “حزب الله”.
وأسفرت آخر هذه الاشتباكات عن سقوط سبعة قتلى في لبنان وثلاثة في سوريا. وقد تم إعلان وقف إطلاق النار رسميًا عقب هذه المواجهات، مما مهد الطريق أمام التوصل إلى الاتفاق الحدودي.
يُشار إلى أن الحدود اللبنانية-السورية، التي تمتد لمسافة 400 كيلومتر، ظلت غير مرسّمة ومعقدة منذ الاستقلال، إذ يسيطر عليها مهربون وأمراء حرب يتاجرون بالسلاح والمخدرات والبشر.
وازدادت عمليات التهريب منذ معركة القصير عام 2013، حيث عزز “حزب الله” سيطرته على المعابر غير الشرعية، ما جعل المنطقة مركزًا رئيسيًا لأنشطة تهريب واسعة، مستفيدةً من الطبيعة الجغرافية الوعرة للحدود.
السوابق التاريخية ومحاولات الترسيم السابقة
لم يكن هذا الاتفاق الأول من نوعه، فقد صدرت قرارات دولية سابقة، أبرزها القرار 1680 عام 2006، الذي دعا إلى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، إلا أنه لم يُنفذ بسبب تعقيدات سياسية وأمنية.
كما تم الاتفاق في عام 2008 بين الرئيس اللبناني ميشال سليمان ونظيره السوري بشار الأسد على تشكيل لجنة لترسيم الحدود، إلا أن أعمالها توقفت مع اندلاع الحرب السورية عام 2011.
وتكررت المحاولات في عام 2023 عندما اقترح الجانب اللبناني استئناف عمل اللجنة خلال زيارة رسمية إلى دمشق، لكن الأخيرة رفضت، حيث كانت عمليات التهريب تجلب لها مكاسب كبيرة.
الدور السعودي: ضمان التنفيذ
تشير المعطيات إلى أن الاتفاق الحالي يتمتع بفرص تنفيذ أكبر، خاصة بعد انهيار النظام السوري وتراجع دور “حزب الله”.
ويرى الباحث نوار شعبان أن وجود جهات رسمية من كلا البلدين، إلى جانب الضامن الدولي، يجعل الاتفاق أكثر صلابة مقارنة بالمحاولات السابقة.
وكان من المقرر عقد الاجتماع بين وزيري الدفاع في دمشق، لكن اعتبارات أمنية دفعت إلى نقله إلى جدة، حيث لعبت السعودية دورًا أساسيًا في إنجاحه.
ويعكس ذلك طموح الرياض في استعادة موقعها الريادي في المنطقة، إذ تعتبر استقرار سوريا ولبنان جزءًا من استراتيجيتها الإقليمية الجديدة.
هل نشهد إعادة رسم لمعادلات القوة في المنطقة؟
لا يقتصر الاتفاق على ترسيم الحدود فحسب، بل قد يكون مقدمة لإعادة ترتيب العلاقات بين بيروت ودمشق، خاصة في ظل غياب النفوذ الإيراني المتراجع.
وإذا نجح في تحقيق أهدافه، فقد يشكل نموذجًا جديدًا للتعامل مع الأزمات الإقليمية، من خلال الدبلوماسية بدلاً من الحلول العسكرية.
بذلك، لا يعد الاتفاق مجرد خطوة إدارية لترسيم الحدود، بل هو مؤشر على تحولات جيوسياسية عميقة في المنطقة، قد تؤدي إلى إعادة رسم موازين القوى بين الفاعلين الإقليميين، وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين بيروت ودمشق، بوساطة وضمانة سعودية.