نهاية البعثية.. كيف انهارت أيديولوجية هيمنت على السياسة العربية لعقود؟

يقول الكاتب والصحافي روبن ياسين كساب إن الثورة السورية لم تكن مجرد انتفاضة ضد نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، بل كانت إيذانًا بانهيار أوسع للبنية التحتية لحكم حزب البعث، الذي هيمن على السياسة العربية لعقود. وكان حل حزب البعث العربي الاشتراكي في فبراير (شباط) بمثابة النهاية الرسمية لأيديولوجية هيمنت على العالم العربي لعقود.
في مقال نشره موقع “أنهيرد” البريطاني، يوضح ياسين كساب، المؤلف المشارك لكتاب “البلد المحترق: السوريون في الثورة والحرب” والمحرر الإنجليزي لـ”متحف سجون داعش”، أن انهيار البعثية يحمل درسًا مهمًا للقادة العرب المعاصرين. ويرى أن فشلها يعود إلى أولويتها للرؤية القومية المجردة على حساب رفاهية الشعوب.
من المثالية الثورية إلى القمع السياسي
نشأت البعثية في أعقاب الحرب العالمية الثانية كأكثر تعبير حماسي عن القومية العربية. وبينما تعامل قادة مثل جمال عبد الناصر مع الوحدة العربية من منظور عملي، تبنى البعثيون رؤية مثالية أشبه بالقدر المحتوم.
تأسست الحركة في دمشق عام 1947 على يد مفكرين تأثروا بالفلسفات الأوروبية، مثل ماركس ونيتشه. وكان من أبرز مؤسسي الحزب ميشال عفلق، وصلاح الدين البيطار، وزكي الأرسوزي، الذين جاءوا من خلفيات دينية متنوعة، لكنهم توحدوا حول فكرة إنشاء هوية عربية منفصلة عن الإسلام.
جمع الحزب بين العلمانية المسيحية والاشتراكية الاقتصادية، وسعى إلى توحيد الدول العربية تحت كيان سياسي واحد يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج.
في البداية، انتشر الحزب عبر المثقفين والناشطين الريفيين، واكتسب شعبية بعد اندماجه مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني عام 1953. وحقق نجاحًا في انتخابات سوريا عام 1954، لكن سرعان ما هيمنت التدخلات العسكرية على السياسة العربية.
العسكرة والطريق إلى الديكتاتورية
كانت سوريا أول دولة عربية تشهد انقلابًا عسكريًا عام 1949، ما مهد الطريق لتكرار هذا النمط في بقية الدول العربية. ثم عزز صعود عبد الناصر في مصر عام 1952 دور الجيش في السياسة.
وفي 1958، اندمجت سوريا ومصر تحت مظلة الجمهورية العربية المتحدة، في خطوة مدفوعة بضغوط الضباط البعثيين، لكنها أدت إلى حل الحزب السوري تحت الحكم المركزي لعبد الناصر. وعندما انسحبت سوريا من الاتحاد في 1961، فقد البعثيون شعبيتهم وأصبحوا أداة للنخب العسكرية بدلاً من حركة جماهيرية.
في عام 1963، وصل البعثيون إلى السلطة في العراق وسوريا، لكن حكمهم سرعان ما انقسم. ففي العراق، الذي كان تحت سيطرة السنة، واجه البعث مقاومة من الأغلبية الشيعية المتحالفة مع الشيوعيين.
أما في سوريا، فقد تفاقم الاقتتال الداخلي حتى انقلاب عام 1966، الذي أطاح بمؤسسي الحزب، ميشال عفلق وصلاح البيطار، وأحكم سيطرة الجناح العسكري بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد. لكن هذا الصراع الداخلي أدى إلى إضعاف الجيش السوري، ما ساهم في خسارة الجولان لصالح إسرائيل في حرب 1967.
من حزب ثوري إلى أداة للديكتاتورية
تحولت البعثية لاحقًا إلى أداة لتعزيز الحكم الفردي. ففي سوريا، استبدل حافظ الأسد الاشتراكية بنظام محسوبية يفضل الطائفة العلوية، بينما استخدم صدام حسين الدولة البعثية لتعزيز هيمنة السنة في العراق.
اعتمد النظامان على القمع، والمراقبة، والتطهير السياسي لضمان استقرار الحكم، وبنيا طقوسًا لتمجيد القائد الفرد كرمز للقومية العربية.
ورغم تحقيق بعض النجاحات الاقتصادية، خاصة في العراق بسبب الثروة النفطية، فإن البعثيين أفقَروا مجتمعاتهم في النهاية.
ففي العراق، استنزفت مغامرات صدام العسكرية، مثل الحرب ضد إيران (1980-1988) وغزو الكويت (1990)، موارد البلاد وأدت إلى عقوبات دولية خانقة.
أما في سوريا، فقد استخدم الأسد القمع الوحشي، كما حدث في مجزرة حماة 1982 التي راح ضحيتها نحو 40 ألف شخص. وعندما خلفه ابنه بشار الأسد عام 2000، صعّد العنف ضد المعارضة، خاصة بعد ثورة 2011، ما أسفر عن مقتل مئات الآلاف من السوريين.
نهاية البعث… إرث من الخراب والانهيار
أدى الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003 إلى سقوط صدام حسين، وإعدامِه لاحقًا. وانضم العديد من ضباط الأمن البعثيين السابقين لاحقًا إلى تنظيم داعش، حيث أعادوا إنتاج نموذج الدولة الأمنية البعثية تحت غطاء إسلامي متشدد.
ورغم تبني داعش لخطاب ديني، فإن نهجه في المراقبة والتعذيب والاستبداد كان انعكاسًا مباشرًا لحكم البعث.