Podcast Icon
سياسة
أخر الأخبار

استراتيجيات تركيا لتعزيز قوتها في البحر الأبيض المتوسط

يستعرض “المجلس الأطلنطي” في دراسة للباحثين عماد الدين بادي وعبدالله الجباسيني، استراتيجية تركيا في منطقة البحر المتوسط.

لطالما كان البحر الأبيض المتوسط ساحة للمنافسات والتحالفات المتغيرة، حيث يتسم بالرهانات المحسوبة والمقامرة الاستراتيجية.

في هذا السياق، أظهرت تركيا مرة أخرى براعتها في تغيير قواعد اللعبة. إعلان أنقرة عن احتمال توقيع اتفاقية لمنطقة اقتصادية خالصة مع الحكومة السورية الجديدة يعكس، إلى حد كبير، الاتفاق البحري التركي لعام 2019 مع حكومة الوفاق الوطني الليبية.

هذا الاتفاق منح تركيا فرصة لتوسيع نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط، مما ساعدها في إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية لصالحها. اليوم، تسعى أنقرة إلى اتباع نفس الاستراتيجية في سوريا، حيث تهدف إلى خلق واقع جديد في المياه كما فعلت على الأرض، مستخدمة الدعم الاقتصادي والسياسي لتأكيد نفسها كلاعب رئيسي في المنطقة.

تعكس هذه التحركات المتوازية رؤية تركيا لليبيا وسوريا كجزء من استراتيجية جيوسياسية مترابطة في البحر الأبيض المتوسط، حيث تعزز الإجراءات في أحد السياقات من قوتها في الآخر.

التدخلات العسكرية والاتفاقيات السياسية:

من أبرز جوانب الاستراتيجية التركية ميلها لاستخدام مجموعة من الأدوات، بما في ذلك التدخلات العسكرية، الاتفاقيات السياسية، والآليات الاقتصادية لتحقيق أهدافها. في ليبيا، منحت تدخلات تركيا العسكرية منذ عام 2019 لأنقرة موطئ قدم مهم من خلال نشر الطائرات بدون طيار، المرتزقة السوريين، والدعم العسكري المباشر.

سمح ذلك لأنقرة بالتفاوض على اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة، والتي، من وجهة نظرها، أعادت رسم الحدود البحرية وتحدت المطالبات التي تقدمت بها اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل. لم يكن الاتفاق مجرد خطوة اقتصادية، بل كان بمثابة مناورة استراتيجية لمواجهة منافسي تركيا في البحر الأبيض المتوسط على المياه وموارد الطاقة.

واليوم، بعد خمس سنوات، تسعى تركيا إلى التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية الجديدة حول منطقة اقتصادية خالصة، مما يوسع مطالباتها البحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. وبينما تعتبر أنقرة هذه الخطوات تأكيدًا لحقوقها المشروعة، من المرجح أن تعتبرها القوى الإقليمية الأخرى استفزازات من شأنها تعميق التوترات في بيئة مضطربة أصلاً.

تعزيز النفوذ في ليبيا وسط التنافس مع روسيا:

تتمتع ليبيا بدور محوري في الاستراتيجية التركية للبحر الأبيض المتوسط، حيث تعد نقطة انطلاق رئيسية لطموحات أنقرة الإقليمية ومنصة لعرض قوتها. أثارت مذكرة التفاهم التي أبرمتها تركيا في 2019 مع حكومة الوفاق الوطني، والتي حددت حدودًا بحرية متنازعًا عليها، جدلًا واسعًا نظرًا لما تضمنته من قضايا سيادة غير محلولة وصعوبة قانونيتها بموجب القانون الدولي.

بعيدًا عن هذه التحديات القانونية، بات موقف تركيا في ليبيا أكثر تعقيدًا بسبب التدخل الروسي، حيث عززت موسكو قوات خليفة حفتر عبر مجموعة فاغنر، ما منحها موطئ قدم في مناطق سيطرة حفتر.

تُظهر التقارير عن نقل الأسلحة الروسية عبر المجال الجوي الذي تسيطر عليه تركيا من قاعدة حميميم الجوية السورية إلى شرق ليبيا التوترات بين أنقرة وموسكو. ورغم أن هذه التطورات قد تبدو في ظاهرها معاملات لوجستية، فإنها تعكس استراتيجية تركيا الأشمل في موازنة التهديدات الروسية واستغلال موقعها كعنصر موازن في المنطقة.

يؤكد هذا التوازن في ليبيا على البراغماتية التركية، حيث تعمل أنقرة على إدارة العلاقة مع موسكو من خلال التوصل إلى صفقات وتحقيق موازنة بين مختلف القوى الإقليمية. في الوقت ذاته، تسعى تركيا إلى الحفاظ على مكانتها كداعم رئيسي لحلف شمال الأطلسي، بينما تبرز قوتها الإقليمية من خلال الظهور كلاعب حاسم في النزاع الليبي.

ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية ليست خالية من المخاطر. فالتوازن الدقيق المطلوب لإدارة العلاقات مع موسكو قد يترك أنقرة عرضة للمفاجآت، كما أن التغيرات في التحالفات الإقليمية أو انقسامات داخلية قد تهدد بتقويض مكاسب تركيا.

تحقيق النفوذ في سوريا ومواجهة التحديات الإسرائيلية:

بدأ التدخل التركي في سوريا بناءً على تهديدات أمنية مباشرة، أبرزها مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واحتواء القوات الكردية التي كانت تسعى لتوسيع سيطرتها في شمال سوريا.

ومع تغير الوضع السياسي في دمشق، وتراجع سلطة بشار الأسد، أعادت أنقرة تقييم استراتيجيتها في سوريا، حيث دمجت طموحاتها الاقتصادية والجيوسياسية مع أهدافها الأمنية.

إن الإعلان عن إمكانية إبرام اتفاق حول المنطقة الاقتصادية الخالصة مع سوريا يعد امتدادًا لاستراتيجية مشابهة لتلك التي تبنتها في ليبيا في 2019. بينما قد يحقق هذا الاتفاق مكاسب بحرية لتركيا ويعمق نفوذها في المنطقة، فإنه ينطوي على مخاطر كبيرة.

إذ من المرجح أن تعتبر اليونان وقبرص والقوى الأوروبية الأخرى مثل هذا الاتفاق غير قانوني ويعزز الاستقطاب الإقليمي ويؤدي إلى تصعيد النزاعات حول الطاقة والسيادة.

إسرائيل: التحدي الأكبر لطموحات تركيا في سوريا:

تتزايد التوترات بين تركيا وإسرائيل بشأن سوريا، خاصة مع استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية على المنشآت العسكرية في سوريا وتوسيعها لوجودها في المناطق المحاذية لمرتفعات الجولان المحتلة.

هناك قلق متزايد داخل إسرائيل من أن تتحول سوريا إلى “محمية تركية”، ما يهدد حرية الوصول العسكرية الإسرائيلية في المنطقة. إلى جانب هذا القلق، تستمر إيران في السعي لتعزيز نفوذها في سوريا، مما يزيد من تعقيد الوضع.

في هذا السياق، يمكن أن تحاول إسرائيل تقويض النفوذ التركي من خلال دعم الأقليات العرقية والدينية في سوريا بهدف تقسيم البلاد وإضعاف موقف أنقرة.

توسيع النفوذ التركي في البحر الأبيض المتوسط:

تسعى تركيا إلى تحقيق أقصى استفادة من التحديات التي تواجه طموحاتها في البحر الأبيض المتوسط عبر خلق تآزر بين استراتيجياتها في ليبيا وسوريا.

في ليبيا، تفاعلت تركيا مع مختلف الفصائل بما في ذلك العائلة الحفترية لتعزيز نفوذها، في حين تواصل التفاوض مع الأطراف السورية المختلفة لتحقيق مصالحها. من خلال هذه الاستراتيجيات المتكاملة، تهدف تركيا إلى تعزيز مكانتها في البحر الأبيض المتوسط وتوجيه الصراعات الإقليمية لصالحها.

في ضوء التحديات التي تواجهها تركيا في المنطقة، ستظل استراتيجية أنقرة في البحر الأبيض المتوسط على المحك. وقد تلعب عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض دورًا حاسمًا في تحديد ديناميكيات المنطقة، إذ يمكن أن يعزز الدعم الأمريكي لتركيا ويمنحها فرصة لتأكيد مكانتها بشكل أكثر عدوانية.

لكن في المقابل، قد يشهد العالم غيابًا أكبر للولايات المتحدة عن الصراعات الإقليمية، ما يترك تركيا في مواجهة تحديات متزايدة من قوى مثل روسيا وإسرائيل، إضافة إلى القوى الإقليمية الأخرى.

في النهاية، تكشف استراتيجية تركيا في البحر الأبيض المتوسط عن طموحات كبيرة، لكنها محفوفة بالمخاطر. إذا كانت أنقرة ترغب في تحقيق طموحاتها الإقليمية، يجب عليها أن توازن بين القوى المتنافسة وتحافظ على مرونة دبلوماسية قد تكون حاسمة في هذه البيئة الجيوسياسية المتقلبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى