
منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 حتى اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، شهد الشرق الأوسط تغييرات استراتيجية جذرية وغير مسبوقة، مع تحولات سريعة في ميزان القوى الإقليمي.
إلا أنه من المبكر التسرع في الإعلان عن “شرق أوسط جديد”، خاصة وأن التاريخ يثبت أن التفاؤل الأولي غالبًا ما يفسح المجال لخيبات الأمل، كما حدث في نتائج الربيع العربي 2010-2011، الذي أدى إلى حروب أهلية وإلى عودة الأنظمة القمعية في بعض البلدان مثل مصر وتونس.
ورغم أن وقف إطلاق النار في غزة يبدو هشًا، إلا أنه صمد أمام اختبارات أولية ويعطي فرصة مهمة لتقييم مدى التحولات الحقيقية التي قد يشهدها الشرق الأوسط في المستقبل القريب.
نظام إقليمي جديد: تنافس بين المعسكرات الكبرى:
الهيكل السياسي التقليدي للشرق الأوسط لا يزال يشتمل على 3 معسكرات رئيسية: معسكر شيعي تقوده إيران، معسكر إسلامي سني بقيادة جماعة الإخوان، ومعسكر سني معتدل موالٍ للغرب، ورغم الاضطرابات الأخيرة، لم تتغير هذه الانقسامات بشكل جذري.
لكن، في العام الماضي، لوحظ ضعف كبير في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، بدءًا من العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله، وصولاً إلى تداعيات سقوط النظام السوري.
والمستفيد الأكبر من هذا الضعف ليس المعسكر المعتدل بقيادة السعودية، بل الكتلة الإسلامية بقيادة تركيا.
المعركة الإقليمية في 2025 وما بعدها:
بداية من 2025، ستكون سوريا هي الساحة الرئيسية للمنافسة الإقليمية، حيث تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها هناك لعدة أسباب، من بينها التعامل مع التحديات الداخلية مثل التوترات السياسية والأمنية مع الأكراد، وأزمة اللاجئين السوريين.
في المقابل، تظل أجندة تركيا الإقليمية، والتي تُوصف أحيانًا بـ “العثمانية الجديدة”، غير واضحة.
الحفاظ على نفوذها في سوريا يعد أمرًا بالغ الأهمية لطموحاتها في أن تصبح مركزًا إقليميًا للتجارة والنقل والطاقة.
لبنان سيظل ساحة تنافس بين المعسكر الإيراني والمعسكر السني المعتدل بقيادة السعودية.
ورغم أن الأخير قد تمكن من تأمين اختيار رئيس وزراء ورئيس للبنان، فإن إيران لا تزال قادرة على دعم حزب الله، على الرغم من القيود المرتبطة بفقدان طريق النقل السوري.
إيران: التحدي المستمر:
على الرغم من وقف إطلاق النار، تظل إيران نقطة اشتعال محتملة في المنطقة، حيث لا يزال الصراع بين إسرائيل وإيران يشكل تهديدًا مباشرًا.
إذا قررت إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية، فقد تندلع مواجهة عسكرية شاملة.
وبينما يواجه المرشد الأعلى علي خامنئي خيارًا صعبًا: تسريع تطوير البرنامج النووي الإيراني أو الانخراط في مفاوضات مع الولايات المتحدة لتحسين العلاقات الاقتصادية والسياسية.
تحديات إسرائيل وسبل التطبيع:
من جانبها، تواجه إسرائيل تحديات كبيرة تتعلق بمنع إيران من إعادة تأسيس وكيلها في المنطقة وحمايتها من التهديدات النووية.
وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة مع الدول السنية المعتدلة، ستواجه إسرائيل عقبات كبيرة في محاولة تطبيع العلاقات مع السعودية.
إن تداعيات حرب غزة الأخيرة قد تزيد من تعقيد هذه المسألة، حيث ازدادت المطالب السعودية بشأن القضية الفلسطينية.
التطورات في سوريا بعد الأسد:
إسرائيل حققت مكاسب استراتيجية من سقوط نظام الأسد، لكن التحديات في سوريا لم تختف بعد.
فالتنظيمات الإرهابية لا تزال تمثل تهديدًا مستمرًا، كما أن وجود حزب الله لا يزال يشكل تحديًا إقليميًا، خاصة مع احتمال إعادة تسليح الجماعة في المستقبل.
الصراع الفلسطيني: تحديات مستمرة:
تعد القضية الفلسطينية من أكثر القضايا تعقيدًا في المنطقة، حيث يعتقد الفلسطينيون أن هجوم 7 أكتوبر أعاد قضاياهم إلى الساحة العالمية، بينما يعتبر الإسرائيليون أن المقاومة الفلسطينية تمثل تهديدًا لا يمكن حله عبر الوسائل الدبلوماسية.
هذا التباين يجعل من الصعب تقديم تنازلات مؤلمة من الطرفين، مما يعني أن الصراع سيستمر في المستقبل القريب.
إدارة ترامب والتحديات المستقبلية:
تواجه إدارة ترامب تحديًا كبيرًا في إدارة هذه الديناميكيات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بتحقيق تسوية سياسية تضمن استقرار إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، بينما تحاول التعامل مع عدم اليقين في غزة والتحديات المرتبطة بالصراع الفلسطيني.
وبينما يظل الدور الأمريكي حاسمًا في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط، فإن الصين تواصل تعزيز وجودها الاقتصادي والتكنولوجي في المنطقة، خاصة مع دول الخليج.
سياسات ترامب في مجال الطاقة قد تدفع هذه الدول إلى التقارب مع الصين، ما قد يؤثر في استراتيجيات المنطقة تجاه العلاقات الأمريكية والإيرانية والإسرائيلية. في النهاية؛ يمكن القول إن الشرق الأوسط على أعتاب تحول استراتيجي عميق، ولكنه في الوقت ذاته يواجه العديد من التحديات القديمة والجديدة. إذ أن إدارة ترامب ستضطر للتعامل مع هذه الديناميكيات بحذر، وسط غموض حول مسار الأحداث المستقبلية